كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال أبو الفتح: أما {يَا حَسْرَهْ} بالهاء ساكنة ففيه النظر. وذلك أن قوله: {عَلَى الْعِبَادِ} متعلق بها، أو صفة لها. وكلاهما لا يحسن الوقوف عليها دونه، ووجه ذلك عندي ما أذكره. وذلك أن العرب إذا أخبرت عن الشيء- غير مُعْتَمِدَتٍهٍ ولا مُعْتَزِمَةٍ عليه- أسرعت فيه، ولم تتأن على اللفظ. المعبر به عنه. وذلك كقوله:
قُلْنَا لَها قِفِي لَنا قالَتْ قَافْ

معناه: وقفْتُ، فاقتصَرَتْ من جملة الكلمة على حرف منها؛ تهاوُنًا بالحالِ، وتثاقُلًا على الإجابة، واعتماد المقال. ويكفي في ذلك قول الله سبحانه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}.
قالوا في تفسيره: هو كقولك: لا والله، وبلى والله. فأين سرعة اللفظ بذكر اسم الله تعالى هنا من التثبت فيه، والإشباع له، والمماطلة عليه من قول الهذلي:
فَوَاللهِ لا أَنْسَى قَتِيلا رُزِئْتُهُ ** بِجَانِبِ قُوسَي مَا مَشَيْتُ علَى الأرْضِ

أفلا ترى إلى تَطَعُّمِكَ هذه اللفظة في النطق هنا بها، وتَمَطِّيكَ لإشباع معنى القسم عليها؟ وكذلك أيضا قد ترى إلى إطالة الصوت بقوله من بعده:
بَلَى إنَّها تَعْفُو الكُلُومُ وإنما ** نُوكَّلُ بِالأَدْنَى وإنْ جَلَّ مَا يَمْضِي

أفلا تراهُ- لما أكذب نفسه، وتدارك ما كان أفرط في اللفظ- أطال الإقامة على قوله: بلى؛ رجوعا إلى الحق عنده، وانتكاثًا عما كان عقد عليه يمينه؟ فأين قوله هنا: فوالله، وقوله: بلى، منهما في قوله: لا والله، وبلى والله؟
وعليه قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} أي: وكَّدتموها، وحققتموها وإذا أوليت هذا أدنى تأمل عرفت منه وبه ما نحن بسبيله وعلى سمته، وعلى هذا قال سيبويه: إنهم يقولون: سِيرَ عليه لَيْلٌ، يريدون: ليلٌ طويلٌ. وهذا إنما يفهم عنهم بتطويل الياء، فيقولون: سِيرَ عليه ليلٌ، فقامت المدة مقام الصفة.
ومن ذلك ما تستعمله العرب من إشباع مدات التأسيس والردف والوصل والخروج عناية بالقافية، إذ كانت للشعر نظاما، وللبيت اختتاما.
أخبرنا أبو أحمد الطبراني عن شيخ له ذكره عن البحتري، قال: سمعت ابن الأعرابي يقول: استجيدوا القوافي، فإنها حوافر الشعر. وقال لي الشجري في بعض كلامه: القافية رأس البيت، وهذا ليس نقضا للأول، وإنما غرضه فيه أنها أشرف ما فيه، كما أن حوافر الفرس هي أوثق ما فيه، وبها نهوضه، وعليها اعتماده. ولقد تغنّى يوما خفير لنا بشعر مؤسس نحو قوله:
ألا عَلِّلانِي قَبْلَ لَوْمِ العَوَاذِلِ

فلَعهدي به وهو يمطُل الألف حتى يَخْطُوَ به فرسُه الخطوة والعشرين، ولولا ظاهر ما في القولِ لقلْتُ الأكثر. فإذا تجاوز الألف أسرع عند الدخيل، فاختلس الذال والروي بعدها. وكان أيضا يمده بتقبُّل صدى صوته مع تماديه واغتراق أقصى النفَسِ فيه ما كان يعطيه إياه نقل الفرس به؛ فإن ذلك كان يهزُّ الألف، ويصنعها، ويزيل تحيَّرها والساذَجِيَّة المملولة عنها.
وعلى ذكر طول الأصوات وقصرها لقوة المعاني المعبر بها عنها وضعفها ما يحكى أن رجلا ضرب ابنا له، فقالت له أمه: لا تضربه، ليس هو ابنك؛ فرافعها إلى القاضي فقال: هذا ابني عندي، وهذه أمه تذكر أنه ليس مني. فقالت المرأة: ليس الأمر على ما ذكره، وإنما أخذ يضرب ابنه فقلت له: لا تضربه ليس هو ابنك، ومدت فتحة النون جدا، فقال الرجل: والله ما كان فيه هذا الطويل الطويل، والأمر يذكر للأمر على تقاربهما، أو تفاوتهما إذا كان ذلك للغرض مُوَضِحًا، وإليه بطالبه مُفْضِيًا. وقد قال:
وَعِنْدَ سَعِيدٍ غَيْرَ أنْ لَمْ أَبُحْ بِهِ ** ذَكَرْتُكِ إنَّ الأمرَ يُذْكَرُ لِلْأَمْرِ

وإذا كان جميع ما أوردناه ونحوه مما استطلناه فحذفناه يدل أن الأصوات تابعة للمعاني- فمتى قويت قويت، ومتى ضعفت ضعفت. ويكفيك من ذلك قولهم: قَطَعَ وقَطَّعَ، وكَسَرَ وكَسَّرَ. زادوا في الصوت لزيادة المعنى، واقتصدوا فيه لاقتصادهم فيه- علمت أن قراءة من قرأ: {يَا حَسْرَهْ عَلَى الْعِبَادِ} بالهاء ساكنة إنما هو لتقوية المعنى في النفس، وذلك أنه في موضع وعظ. وتنبيه، وإيقاظ وتحذير، فطال الوقوف على الهاء كما يفعله المستعظم للأمر، المتعجب منه، الدال على أنه قد بهره، وملك عليه لفظه وخاطره. ثم قال من بعد: {على العباد} عاذرا نفسه في الوقوف على الموصول دون صلته لما كان فيه، ودالَّا للسامع على أنه إنما تجشم ذلك- على حاجة الموصول إلى صلته وضعف الإعراب وتحجره على جملته- ليفيد السامع منه ذهابَ الصورة بالناطق.
ولا يَجْفُ ذلك عليك على ما به من ظاهر انتقاض صنعته؛ فإن العرب قد تحمل على ألفاظها لمعانيها حتى تفسد الإعراب لصحة المعنى. ألا ترى إلى أن أقوى اللغتين- وهي الحجازية في الاستفهام عن الأعلام نحو قولهم فيمن قال: مررت بزيدٍ: من زَيْدٍ؟
فالجر حكاية لجر المسئول عنه، فهذا مما احتُمل فيه إضعاف الإعراب لتقوية المعنى. ألا ترى أنه لو ركب اللغة التميمية طلبا لإصابة الإعراب فقال: مَنْ زَيْدُ؟ لم يَضِحْ من ظاهر اللفظ أنه إنما يسأل عن زيد هذا المذكور آنفا ولم يؤمن أن يُظن به أنه إنما ارتجل سؤالا عن زيد آخر مستأنفا؟
ومن الحمل على اللفظ للمعنى قوله:
يا بُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضَرَّارًا لأقْوَام

فتجشَّم الفصل بين المضاف والمضاف إليه بلام الجر؛ لما يعقبه من توكيد معنى الإضافة، فهذا ونظائره يؤكد أن المعاني تتلعّب بالألفاظ، تارة كذا، وأخرى كذا. وفيه بيان لما مضى.
وقد يجوز غير هذا كله، وهو أن يكون {حسرة} غير متعلقة ب {على} فيحسن الوقوف عليها، ثم تُعَلَّق على بمضمر، وتدل عليه {حسرة} حتى كأنه قال: أتحسَّر على العباد. وهذا في القرآن ما لا أحصيه لكثرته.
وأما {يا حسرةَ العِبادِ} مضافا فإن لك فيه ضربين من التأويل:
إن شئت كان {العباد} فاعلين في المعنى، كقولك: يا قيام زيد ويا جلوس عمرو أي: كأن العباد إذا شاهدوا العذاب تحسروا.
وإن شئت كان {العباد} مفعولين في المعنى، وشاهده للقراءة الظاهرة: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} أي: يتحسر عليهم مَنْ يعنيه أمْرُهُم ويهمُه ما يمسهم، وهذا ظاهر.
ومن ذلك قراءة ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وعطاء بن أبي رياح وأبي جعفر محمد بن علي وأبي عبد الله جعفر بن محمد وعلي بن حسين: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِا مُسْتَقَرَّ لَهَا} بنصب الراء.
قال أبو الفتح: ظاهر هذا الموضع ظاهر العموم، ومعناه معنى الخصوص؛ وذلك أن لا هذه النافية الناصبة للنكرة لا تدخل إلا نفيا عاما؛ وذلك أنها جواب سؤال عام، فقولك: لا رجل عندك. جواب هل من رجل عندك؟ فكما أن قولك: هل من رجل عندك، سؤال عام، أي: هل عندك قليل أو كثير من الجنس الذي يقال لواحده رجل؟ فكذلك ظاهر قوله: {لِا مُسْتَقَرَّ لَهَا} نفي أن تستقر أبدا، ونحن نعلم أن السموات إذا زُلْنَ بطل سير الشمس أصلا، فاستقرت مما كانت عليه من السير. ونعوذ بالله أن نقول: إن حركتها دائمة كما يذهب مُحَبَّنُو الملحدة، فهذا إذًا- في لفظ العموم بمعنى الخصوص- بمنزلة قوله:
أَبْكِي لفَقْدِكَ ما ناحَتْ مُطوَّقةً ** وما سما فَنَنٌ يومًا عَلَى ساقِ

ونحن نعلم أن أقصى الأعمار الآن إنما هو مائة سنة ونحوُها، أي: لو عشت أبدا بكيتك. فكذلك {لِا مُسْتَقَرَّ لَهَا} ما دامت السموات على ما هي عليه. وقد تقدم ذكرنا باب المجاز في كتابنا الخصائص، وأنه أضعاف الحقيقة قولا واحدا.
ومن ذلك قراءة قتادة: {وَنُفِخَ فِي الصُّوَر}.
قال أبو الفتح: قد سبق القول على ذلك فيما مضى بشواهده.
ومن ذلك قراءة علي بن أبي طالب {عليه السلام} {مِنْ بَعْثِنَا}.
قال أبو الفتح: أي: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا، كقولك: يا ويلي مِن أخْذِكَ مني مالي، ف مِنْ الأولى متعلقة بالويل، كقولك: يا تَأَلُّمِي منك.
وإن شئت كانت حالا من {وَيْلَنَا} فتعلقت بمحذوف، حتى كأنه قال: يا ويلنا كائنا من بَعْثِنا. وجاز أن يكون حالا منه، كما يجوز أن يكون خبرا عنه، كقول الأعشى:
وَيْلِي عَلَيْكَ وَوَيْلِي ** مِنكَ يا رَجُل

وذلك أن الحال ضرب من الخبر.
وأما من في قوله تعالى: {مِنْ مَرْقَدِنَا} فإنها متعلقة بنفس البعث، كقولك: سرني بعثك من بلدك إليّ.
ومن ذلك قراءة ابن أبي ليلى: {يَا وَيْلَتَا}1، بزيادة تاء.
قال أبو الفتح: هو تأنيث الويل، فويلة كقولة، ومثله: {يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ}3، وأصلها: يا ويلتي، فأبدلت الياء ألفا؛ لأنه نداء، فهو في موضع تخفيف، فتارة تحذف هذه الياء كقولك: يا غلامِ، وأخرى بالبدل كقولك: يا غلامَا. قال:
يا أبَتَا عَلّك أو عساكا

قإن قلت: فكيف قال: {يَا وَيْلَتَا} وهذا لفظ الواحد وهم جماعة، ألا ترى أن بعده {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}؟ قيل: يكون على أن كل واحد منهم قال: {يَا وَيْلَتَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} كما يقول الرجل: صبرا على ما حكم الله به علينا، ورضيت بما قسم الله لنا، ونحوٌ منه قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}1، أي: اجلدوا كل واحد منهم. ومثله ما حكاه أبو زيد من قولهم: أتينا الأمير فكسانا كلنا حلّة، وأعطانا كلنا مائة، أي: كسا كل واحد منا حلة، وأعطى كل واحد منا مائة.
ومن ذلك قراءة أبي بن كعب: {منْ هَبَّنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}2، يعني أصحاب القبور.
قال أبو الفتح: قد أثبت أبو حاتم عن ابن مسعود: {مَنْ أهَبَّنَا} بالهمزة. وهي أقيس القراءتين. يقال: هَبَّ من نومه، أي: انتبه وأَهْبَبْتُهُ أنا، أي: أنبهته. قال:
أَلَا أَيُّها النُّوَامُ وَيْحَكُمُ هُبُّوا ** أُسَائِلُكُمْ هَلْ يَقْتُلُ الرَّجُلَ الحُبُّ

فأما هبَنَّي أي: أيقظني فلم أر لها في اللغة أصلا، ولعلها لغة قليلة، ولا مَرَّ بنا مَهْبُوب، بمعنى مُوقَظ. وهي- مع حسن الظن بِأُبَيّ- مقبولة. وقد أثبتها أبو حاتم أيضا، اللهم إلا أن يكون حرف الجر معها محذوفا، أي: وهب بنا، بمعنى أيقظنا، ثم حُذف حرف الجر، فوصل الفعل بنفسه. وليس المعنى على من هَبَّ فَهَبَبْنَا معه كقولك: انتبَهَ وأَنْبَهَنا معه، وإنما معناه من أيقظنا. ألا ترى إلى قول الله {سبحانه} {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم}5 ليس معناه تعالى أنه ذهب وذهب بنورهم معه؟ هذا مدفوع عن الله تعالى، وإنما معناه: أَذْهَبَ نُورَهُمْ، فذَهَبَ بِهِ كأَذْهَبَهُ، أي أزاله وأنفده، فاعرف ذلك.
ومن ذلك قراءة محمد بن كعب القُرَظيّ: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سِلْمٌ قَوْلًا}.
وقرأ عيسى الثقفي: {سَلامًا قَوْلًا} نصبا جميعا.
قال أبو الفتح: أما الرفع فعلى أوجه:
أحدها أن يكون مقطوعا مستأنفا، كأنه لما قال: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} قال: {سِلْمٌ} أي: ذاك {سِلْمٌ} أي: ثابت لا نزاع فيه ولا ضيم ولا اعتراض، بل هو سِلْمٌ لهم.
ووجه ثان: أن يكون على: ما يدعون سِلْمٌ لهم، أي: مسلَّمٌ لهم، ف {لهم} على هذا متعلق بنفس {سِلْمٌ} وليس بمصدر، بل هو بمعنى اسم الفاعل أو المفعول، وإنما على مُسَالِم لهم، أو على مسلَّم لهم. ولم يجز بمعنى المصدر؛ لأنه كان يكون في صلته، ومحال تقدم الصلة أو شيء منها على الموصول.
ووجه ثالث، وهو أن يكون: {لهم} خبرا عن: {ما يدعّون} و{سِلْم} بدل منه.
ووجه رابع، وهو أن يكون {لهم} خبرا عن {ما يدعّون} و{سِلْمٌ} خبر آخر، كقولنا: زيد جالس متحدث، كما جاز أن يكون بدلا من {لهم} فكذلك يجوز أن يكون خبرا معه آخر.
فإن قلت: فإذا كان لهم سلم لا حرب لهم فما فيه من الفائدة؟ قيل: قد يكون الشيء لك لكن على خلاج وبعد شواجر الخلاف، وذلك كالشيء المتناهَب، فقد يحصل لأحد الفريقين، لكن على أغراض من النزاع باقية فيه، ولم يَصْفُ صفاء ما لا تعلق للمتبِع به، فمعلوم أن هذه الثوابت لأربابها لا تتساوى أحوالها في انحسار الشُّبَه والزخارف عنها.
ونَصب {قولا} على المصدر، أي: قال الله ذلك قولا أو يقال ذلك قولا. ودل على الفعل المحذوف لفظ مصدره، وأن القرآن إنما هو أقوال متابِعة. وأما {سلامًا} بالنصب فحال مما قبله، أي: ذلك لهم مسلَّما، أو مُسالِما، أي: ذا سلام وسلامة. ونصب {قولا} على المصدر كما مضى.
ومن ذلك قراءة الحسن وعبد الله بن عبيد بن عمير وابن أبي إسحاق والزهري والأعرج وحفص بن حميد: {جُبُلًّا} بضم الجيم والباء، واللام مشددة.
وقرأ: {جِبْلًا} مكسورة الجيم، ساكنة الباء الأشهب العقيلي.
قال أبو الفتح: قد تقدم ذكر هذا الحرف بما فيه.
ومن ذلك قراءة طلحة- رواه عبد الرحمن بن محمد بن طلحة عن أبيه عن جده: {نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَلِتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَلِتَشْهَدَ أَرْجُلُهُمْ}.
قال أبو الفتح: الكلام محمول على محذوف، أي: نختم على أفواههم وَلِتُكَلِّمُنَا أيديهم ولتشهَدَ أرجلُهم بما كانوا يكسبون ما نختم على أفواههم، كقولك: أحسنت إليك ولشكرك ما أحسنت إليك، وأنلتك سؤالك ولمسألتك ما أنلتك سؤلك، كما قال:
أَحْبَبْتُها وَلِحَيْنِي كانَ حُبِّيها هَلْ أنتَ يا سعْدُ يومًا مَا مُلاقِيها؟
ومن ذهب إلى زيادة الواو نحو قول الله سبحانه: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} جاز أن يذهب إلى مثل ذلك في هذا الموضع، فكأنه اليوم نختم على أفواههم لِتُكَلِّمُنَا أيديهم. فأما الواو في قوله تعالى: {ولِتَشْهَدَ} فعطف على ما قبلها، وهو {لِتُكَلِّمَنَا} وعلى أن زيادة الواو لا يعرفها البصريون، وإنما هو للكوفيين خاصة.
ومن ذلك قراءة الحسن والأعمش: {رُكُوبُهُم} برفع الراء وقرأ: {رَكُوبَتُهُمْ} عائشة وأبي بن كعب.
قال أبو الفتح: أما الرُّكوب، بضم الراء فمصدر، والكلام محمول على حذف المضاف مقدما أو مؤخرا.
فإن شئت كان التقدير فيها ذو رُكُوبهم، وذو الرُّكوب هنا هو المركوب، فيرجع المعنى بعد إلى معنى قراءة من قرأ: {رَكُوبهم} بفتح الراء، و{رَكُوبَتُهُمْ}.
وإن شئت كان التقدير فمن منافعها أو من أغراضها رُكوبهم، كما تقول لصاحبك: من منافعك إعطاؤك لي، ومن بركاتك وصول الخير إليّ على يدك. ومثله في تقدير حذف المضاف من جهتين أيَّ الجهتين شئت قول الله سبحانه: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى}1، إن شئت كان على تقدير: ولكنّ البِرَّ بِرُّ من اتقى، وإن شئت كان تقديره: ولكنّ ذا البِرِّمن اتقى.
والتقدير الأول في هذا أجود عندنا؛ وذلك أن تقديره حذف المضاف من الخبر، أعني: برُّ من اتقى، والخبر أولى بذلك من المبتدأ؛ وذلك أن حذف المضاف ضرب من التوسع. والتوسعُ آخرُ الكلام أولى به من أوله، كما أن الحذف والبدل كلما تأخر كان أمثل؛ من حيث كانت الصدور أولى بالحقائق من الأعجاز وهذا واضح، ولذلك اعتمده عندنا صاحب الكتاب فحمله على أن التقدير: ولكنّ البِرَّ بِرُّ من اتقى.
وأجاز أبو العباس أن يكون الحذف من الأول على ما مضى، وهو لعمري جائز، إلا أن الوجه ما قدمنا ذكره، لكن الحذفين في قوله: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُم} على ما قدمنا- متساويان، وذلك إن قدرته على أنه: فمن منافعها رُكُوبُهُمْ فإنما حذفت من الخبر؛ لأن تقديره: فَرُكُوبُهُمْ منها، فهو- وإن كان مقدما في اللفظ- مؤخر في المعنى. وإن قدرته على معنى: فمنها ذو رُكُوبُهُمْ، فَحَسَنٌ أيضا، وإن كان مقدما في المعنى فإنه مؤخر في اللفظ، فاعرف ذلك.
وأما {رَكُوبَتُهُمْ} فهي المركوبة: كالقَتُوبَة، والجَزُوزَة، والحَلُوبَة، أي: ما يُقْتَبُ، ويُجَزُّ، ويُحْلَبُ. وقد أشبعنا هذا الموضع في كتابنا المعروف بالخطيب، وهو شرح كتاب المذكر والمؤنث ليعقوب بن السكيت.
ومن ذلك قراءة طلحة وإبراهيم التيمي الأعمش: {مَلَكَةُ كُلِّ شَيْءٍ}.
قال أبو الفتح: معناه- والله أعلم- سبحان الذي بيده عصمة كل شيء وقدرة كل شيء، وهو من مَلَكْتُ العجينَ: إذا أَجَدْت عجنه، فقويتَهُ بذلك. ومنه المِلْكُ؛ لأنه القدرة على المملوك، ومنه المُلْكُ؛ لأن به قِوَام الأمور.
والمَلَكُوت فَعَلُوت منه، زادوا الواو والتاء للمبالغة بزيادة اللفظ، وهذا لا يطلق الملكوت إلا على الأمر الأعظم. ألا تراك تقول: مِلْك البزاز والعطار والحناط، ولا تقول الملكوت في شيء من ذلك؟ ونظيره الجَبَرُوت، والرَّغَبُوت، الرَّهَبُوت، ومنه عندنا الطاغُوت، هو فَعَلُوت من الطغيان، إلا أنه قُلِب وأصلُه طَغَيُوت، فَقُدِّمت اللام على العين، فصارت طَيَغُوت، ثم قلبتِ الياء لوقوعها متحركة بين متحركين فصار طاغُوت، وقد تقصينا ذلك في كتابنا الموسوم بالمنصف. اهـ.